الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
{وَفَوْقَ كُلّ ذِى عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76] فجعل غيره ذا علم ووصف نفسه بالفعل فبين ذي العلم والعليم فرق وكذلك بين ذي القوة والقوي، ويؤيده أيضًا أنه تعالى قال: {فَأَخَذَهُمُ الله إِنَّهُ قَوِىٌّ شَدِيدُ العقاب} [غافر: 22] وقال تعالى: {الله لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاء وَهُوَ القوى العزيز} [الشورى: 19] وقال تعالى: {لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} [المجادلة: 21] لأن في هذه الصور كان المراد بيان القيام بالأفعال العظيمة والمراد هاهنا عدم الاحتياج ومن لا يحتاج إلى الغير يكفيه من القوة قدر ما، ومن يقوم مستبدًا بالفعل لابد له من قوة عظيمة، لأن عدم الحاجة قد يكون بترك الفعل والاستغناء عنه، ولو بين هذا البحث في معرض الجواب عن سؤال سائل عن الفرق بين قوله: {ذُو القوة} هاهنا وبين قوله: {قَوِىٌّ} في تلك المواضع لكان أحسن، فإن قيل فقد قال تعالى: {لِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب إِنَّ الله قَوِىٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] وفيه ما ذكرت من المعنى وذلك لأن قوله: {قَوِىٌّ} لبيان أنه غير محتاج إلى النصرة وإنما يريد أن يعلم ليثيب الناصر، لكن عدم الاحتياج إلى النصرة يكفي فيه قوة ما، فلم لم يقل إن الله ذو القوة؟ نقول فيه إنه تعالى قال من ينصره ورسله، ومعناه أنه يغني رسله عن الحاجة ولا يطلب نصرتهم من خلقه ليعجزهم وإنما يطلبها لثواب الناصرين لا لاحتياج المستنصرين وإلا فالله تعالى وعدهم بالنصر حيث قال: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون} [الصافات: 171، 172] ولما ذكر الرسل قال قوي يكون ذلك تقوية تقارب رسله المؤمنين، وتسلية لصدورهم وصدور المؤمنين.البحث الثاني: قال: {المتين} وذلك لأن {ذُو القوة} كما بينا لا يدل إلا على أن له قوة ما فزاد في الوصف بيانًا وهو الذي له ثبات لا يتزلزل وهو مع المتين من باب واحد لفظًا ومعنى فإن متن الشيء هو أصله الذي عليه ثباته، والمتن هو الظهر الذي عليه أساس البدن، والمتانة مع القوة كالعزة مع القوة حيث ذكر الله تعالى في مواضع ذكر القوة والعزة فقال: {قَوِىٌّ عَزِيزٌ} [الحديد: 25] وقال: {القوى العزيز} [هود: 66].وفيه لطيفة تؤيد ما ذكرنا من البحث في القوي وذي القوة، وذلك لأن المتين هو الثابت الذي لا يتزلزل والعزيز هو الغالب، ففي المتين أنه لا يغلب ولا يقهر ولا يهزم، وفي العزيز أنه يغلب ويقهر ويزل الأقدام، والعزة أكمل من المتانة، كما أن القوي أكمل من ذي القوة، فقرن الأكمل بالأكمل وما دونه بما دونه، ولو نظرت حق النظر وتأملت حق التأمل لرأيت في كتاب الله تعالى لطائف تنبهك على عناد المنكرين وقبح إنكار المعاندين.{فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59)}.وهو مناسب لما قبله وذلك لأنه تعالى بيّن أن من يضع نفسه في موضع عبادة غير الله يكون وضع الشيء في غير موضعه فيكون ظالمًا، فقال إذا ثبت أن الإنس مخلوقون للعبادة فإن الذين ظلموا بعبادة الغير لهم هلاك مثل هلاك من تقدم، وذلك لأن الشيء إذا خرج عن الانتفاع المطلوب منه، لا يحفظ وإن كان في موضع يخلي المكان عنه، ألا ترى أن الدابة التي لا يبقى منتفعًا بها بالموت أو بمرض يخلي عنها الإصطبل، والطعام الذي يتعفن يبدد ويفرغ منه الإناء، فكذلك الكافر إذا ظلم، ووضع نفسه في غير موضعه، خرج عن الانتفاع فحسن إخلاء المكان عنه وحق نزول الهلاك به، وفي التفسير مسائل:المسألة الأولى:فيما يتعلق به الفاء، وقد ذكرنا لك في وجه التعلق.المسألة الثانية:ما مناسبة الذنوب؟ نقول العذاب مصبوب عليهم، كأنه قال تعالى نصب من فوق رؤوسهم ذنوبًا كذنوب صب فوق رؤوس أولئك، ووجه آخر وهو أن العرب يستقون من الآبار على النوبة ذنوبًا فذنوبًا وذلك وقت عيشهم الطيب، فكأنه تعالى قال: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} من الدنيا وطيباتها {ذَنُوبًا} أي ملاء، ولا يكون لهم في الآخرة من نصيب، كما كان عليه حال أصحابهم استقوا ذبوبًا وتركوها، وعلى هذا فالذنوب ليس بعذاب ولا هلاك، وإنما هو رغد العيش وهو أليق بالعربية، وقوله تعالى: {فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} فإن الرزق ما لم يفرغ لا يأتي الأجل.ثم أعاد ما ذكر في أول السورة فقال: {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ}.والحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين. اهـ.
والتعبيد الاستعباد وهو أن يتخذه عبدًا.وكذلك الاعتباد.والعبادة: الطاعة، والتَّعبُّد التَّنسك.فمعنى {لِيَعْبُدُونِ} ليذِلّوا ويخضعوا ويعبدوا.{مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ} {مِنْ} صلة أي رزقًا بل أنا الرزّاق والمعطي.وقال ابن عباس وأبو الجوزاء: أي ما أريد أن يرزقوا أنفسهم ولا أن يطعموها.وقيل: المعنى ما أريد أن يرزقوا عبادي ولا أن يطعموهم {إِنَّ الله هُوَ الرزاق} وقرأ ابن مُحيصِن وغيره {الرَّازِقُ}.{ذُو القوة المتين} أي الشديد القوي:وقرأ الأعمش ويحيى بن وثّاب والنّخعي {الْمَتِينِ} بالجر على النعت للقوّة.الباقون بالرفع على النعت ل {الرزَّاق}، أو {ذُو} من قوله: {ذُو القوة} أو يكون خبر ابتداء محذوف؛ أو يكون نعتًا لاسم إنّ على الموضع، أو خبرًا بعد خبر.قال الفراء: كان حقّه المتينة فذكَّره لأنه ذهب بها إلى الشيء المبرَم المحكم الفتل؛ يقال: حبل متين وأنشد الفرّاء: فذكَّر المعصَّب؛ لأن اليمنة صنف من الثياب؛ ومن هذا الباب قوله تعالى: {فَمَن جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة: 275] أي وعظ {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} [هود: 67] أي الصياح والصوت.قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ} أي كفروا من أهل مكة {ذَنُوبًا مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ} أي نصيبًا من العذاب مثل نصيب الكفار من الأمم السالفة.وقال ابن الأعرابي: يقال يوم ذَنُوب أي طويل الشر لا ينقضي.وأصل الذَّنُوب في اللغة الدَّلو العظيمة، وكانوا يستقون الماء فيقسمون ذلك على الأنصباء فقيل للذَّنُوب نصيب من هذا؛ قال الراجز: وقال عَلْقمة: وقال آخر: الجوهري: والذَّنُوب الفرس الطويل الذَّنب، والذَّنُوب النصيب، والذَّنُوب لحم أسفل المَتْن، والذَّنُوب الدَّلو الملآى ماء.وقال ابن السكيت: فيها ماء قريب من الملء يؤنث ويذكر، ولا يقال لها وهي فارغة ذَنُوب؛ والجمع في أدنى العدد أَذْنِبة والكثير ذَنائِب، مثل قَلُوص وقَلاَئص.{فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ} أي فلا يستعجلون نزول العذاب بهم؛ لأنهم قالوا: يا محمد {فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين} [الأعراف: 70] فنزل بهم يوم بدر ما حقق به وعده وعجّل بهم انتقامه، ثم لهم في الآخرة العذاب الدائم، والخزي القائم، الذي لا انقطاع له ولا نفاد، ولا غاية ولا آباد.تم تفسير سورة (والذاريات) والحمد لله. اهـ.
|